رسالة من تحت الطباشير!


كتب خالد الفاظل ـ وهو مدون، وأستاذ تعليم ثانوي من أبناء مدينة العيون

إلى الوزيرة المدللة: السيدة الناه حمدي مكناس.
بعد الاحترام وباقة من "الطباشير الملونة"؛ يسرني أن أطلب يدك للحديث قليلا. لقد تتبعتك في تويتر ووجدت عشك الذي تغردين منه في أعلى الشجرة. تسلقت جذعها المغطى بطبول الأرانب مثل نملة صغيرة وتائهة تبحث عن السكر، علقت على إحدى تغريداتك بخصوص نواقص مؤسستنا بيد أنك لم تعيريني انتباها.

معك أستاذ من شهداء 2013 فوق الترقية وكامل "البعد". لقد تورطت مع السبورة غرة شتاء ذلك العام البارد كأصابع التلاميذ في الأرياف النائية عندما يفركونها بكل شدة طلبا للدفء حتى يتمكنوا من إمساك القلم لكتابة عنوان الدرس.



هناك فتاة درستها أول عام لي: 2013-2014 في القسم الخامس رياضي، سوف تتخرج العام الجاري من (المعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات)، ربما ألتقيها صدفة موظفة في أحد البنوك المخملية وأسحب من عندها راتبي لتكتشف في ذهول عارم بأن راتبها كمبتدئة في البنك يفوق راتبي، وذلك بعد خمسة أعوام متتابعة من الرقص بمحاذاة السبورة المظلمة كمتصوف وصل لذروة الارتقاء الروحي وانفصل عن واقعه.



أربعة أعوام من الخمسة قضيتها في (تامشكط)، المدينة المعلقة في سقف السماء، والتي تركت فيها وسادة ضامرة وسريرا نحيلا وتمثالا من الرمال يشبهني، تمثال لن يكون مرئيا إلا إذا أنشبت رياح الأقدار أظافرها في الكثبان المحيطة بالثانوية وأيقظت خطواتي عليها مرة أخرى.



عام خامس قضيته في (تيشيت)؛ المدينة التي تسلقت جبالها العالية وشممت من على قممها رائحة العطور المدسوسة في أمتعة القوافل القديمة وكدت أن أمسك فيها سقف التاريخ بيدي.



والآن أنا في مدينة الدرجات (فصالة)، أجلس على حافة الخريطة تتدلى أرجلي منها وتكاد أحذيتي أن تضيع في صحراء (أزواد)، أتأمل ظلال العابرين كل مساء مثل رحالة وضع وطنه في حقيبة صغيرة وقرر أن لا يستقر إلا في قبر صغير سيصله متعبا من كثرة حزم الأمتعة وأداء الصلوات في محطات النقل.



لقد خرجت كما يبدو من الحدود عفوا أقصد الموضوع؛ فأنا سأحدثك عن نواقص مؤسستنا وليس عن راتبي وحياتي وصلواتي وقصائدي وترهاتي.

أيها الوزيرة: لقد رأيت تعميمك منذ زمن عن ضرورة تحديد النواقص في الطاقم التربوي والبنية التحتية؛ بيد أن نصف السنة ارتحل وأنت مازلت تحاولين القفز في مستنقع التعليم كأنك تخافين على ثيابك السياسية من أن تتبلل أو أن تتلطخ أقدامك في الوحل المليء بالتماسيح والثعابين.



إليك هذا الخبر:



تجمهر التلاميذ في فصالة في راحة العاشرة يوم الثلاثاء الماضي احتجاجا على انعدام أستاذ لمادة العلوم الطبيعية داخل مؤسستهم، وذلك منذ افتتاح العام الدراسي وحتى الآن. مع العلم أنه توجد في مؤسستهم أقسام تابعة لشعبة العلوم الطبيعية كالخامس والسادس هذا بالإضافة لوجود سبعة أقسام كحصيلة إجمالية؛ قسمين منهم خارج أسوار المؤسسة داخل بيوت طينية تبرع العمدة بإيجارها، وقسم ثالث يدور بين الأقسام كمحصل ضرائب مغمور، ورابع محشور داخل قاعة ضيقة من مبنى الإدارة الذي أدار ظهره لأبواب الأقسام، فيبدو أن المقاول الذي شيده كان في خصومة شاقة مع الفن المعماري والنظام التربوي.



في وجود ثلاث حجرات متلاصقة كثلاث أخوات توائم بلا معيل (وزارة) تقاوم المؤسسة ببسالة عوامل تعرية قطاع التعليم. مؤسسة بلا مختبر وبلا مكتبة باستثناء كشك لبيع الكتب. يلعب مديرها ثلاثة أدوار متزامنة، دور البواب الذي يتسمر عند بابها قبل بزوغ شمس الدوام الثامنة صباحا وبعد أفولها الثانية زوالا، كما يلعب دور المراقب، ولو كان بوسعه لعب دور أستاذ العلوم لفعلها أو دور أستاذ الانكليزية؛ والذي نسيت أن أخبرك بأنها لم تدرس السنة الماضية والفصل الأول من هذه السنة الدراسية. قبل أن يتطوع مدرس ابتدائية بتدريسها ويقتطع لها يوما من وقته المضغوط دونما حوافز مادية ومعنوية حتى. أعتقد أن الهدية التي قدمها هذا المدرس لمستقبلكم أفضل بكثير من السيارات الخمس التي تسلمها وزير الخارجية هدية من كوريا الجنوبية أمام عدسة الكاميرا.

سيدتي: إن القطاع التعليم الذي تورطت في الإشراف عليه غارق في الضياع وأصبح شبيها بمومياء محنطة داخل كومة من الغبار، يتصاعد دخان همومه كئيبا كلما دقت الأجراس في المدارس العمومية وانبعث صوتها المبحوح كصوت المدرس.



من المؤلم حقا رؤية التلاميذ يعودون بدفاتر خالية من بعض المواد؛ ومن المؤلم أكثر تدريسهم داخل قسم مؤجر مشيد من الطين والحطب، تدلى من سقفه خيوط العنكبوت ومحفورة على جدرانه دموع الأمطار.



لقد قتل التعليم مظلوما وتفرق دمه بين السياسة والإصلاحات التائهة والمناهج الجامدة، ولو أنك حقا أردت إصلاحه، لما كان عليك أن تتصلي بالحماية المدينة يوم الأربعاء عندما شبَّ ذلك الحريق في وزارتكم "المحترمة"والفهمُ.



هنا فصالة. الصورة المرفقة التقطتها صباح الخميس 7 فبراير 2019 من حصة الثامنة وتاريخها موضح بجلاء في السبورة حتى لا يظن البعض أنها ملتقطة في سبعينيات القرن الماضي.



والرسالة تصل براحة السيدة الوزيرة الناه حمدي مكناس من أستاذ الرياضيات والفيزياء الرحالة خالد محمد المتواجد حاليا في فصالة وأهدي أغنية الصباح (يا عاقدين الحاجبين) للسيدة فيروز إلى التي تعرف نفسها جيدا.

الساعة 07:23 صباحا وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مشاركة هذا المحتوى: